ثورة الإمام الحسين (ع) عطاء فكري متجدد
أوقدت ملحمة الحسين أبو الأحرار شعلة في أعماق التاريخ منذ أربعة عشر قرناً الماضية، لم تنطفئ جذوتها على مدى الزمن، تجلت فيها ثورة الفكر الإنساني على النظام الأسروي الذي انتزع حق الإدارة من أيدي الجماعة بالتآمر والقسوة والدهاء، مواصلاً محاولاته لتطويع الناس وإدارة شوؤنهم بأساليب الترهيب والترغيب للاستئثار بالسلطة وتوريث الحكم، بعيداً عن مبادئ الإسلام والتزاماته في المساواة وضمان حقوق المستضعفين، متمادياً حد إغفال مبدأ الشورى، وإلغاء التشريع الثوري الإسلامي القائم على أساس تحرير العبيد، ولم يعد بيت المال لعموم المسلمين بل حضيت به حفنة متسلطة، أقتسمت فيما بينها الأراضي الخصبة الواسعة في البلدان المفتوحة، وسعت في سابقة لم يألفها الاسلام من أجل حماية مصالحها وتدعيم سطوتها الى تشكيل قوات نظامية على غرار جيش دولة الجوار البيزنطية، استقواءاً على الرعية بسيف مدفوع الأجر، علاوة على وسائل القسر الفكرية التي كانت تقوم بها المؤسسة الدينية الرسمية حيث انطوت مفاعيلها على مساعدة الحاكم الظالم بإضفاء شرعية اليقين الراسخ من خلال إصدار الفتاوى المتوائمة مع توجهاته وأنشطته السياسية، وفي تقديم التفسير الديني الذي يدعم سطوته ويجعل منطق سلطته هو الحق والعدل والخير، مما أدى الى نشوء خلافات وإشكاليات تفاقمت بمرور الوقت، ولازالت أثارها باقية لحد الان، ناجمة عن اختلاف في الفهم، وممارسات في التدليس وتغييب النص، وتقليل سقف الحريات والحقوق، وتحريف أحداث التاريخ، فتواترت موروثات تلك الحقبة المثيرة للجدل منتجةً رؤى مختلفة، لا تعدو في الغالب عن كونها اجتهاداً مستنبطاً لحاجات الحكم الأسروي كي يبقى متسلطاً على رقاب الشعب، محروساً بفتاوى وعاظ السلاطين، وقد أشار المفكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين الى نتاج المؤسسة الدينية التي أرغمت على أن تكون مشروعاً سلطوياً بكونه يتركز على محور رئيسي يهدف الى غاياته في (تحريم ثورة العادلين على الظالمين الفاسقين، وجعل مبرر السيطرة على الحكم القدرة على قهر الرعية وظلمها والجور عليها)، وأورد في كتابه ثورة الحسين بعض من فتاوى الفقهاء الرسميين التي تنصب على تعميق هذا المسار، ومنها قول الشربيني ( وقد عرَّف المصنف البغاة، هم مسلمون، مخالفوا الإمام ولو جائراً وهم عادلون)، وايضاً قول المصنف في شرح مسلم (إن الخروج على الائمة وقتالهم حرام بإجماع المسلمين، وان كانوا فسقة ظالمين)، وقول الشيخ عمر النسفي ( ولا يعزل الإمام بالفسق والجور)، وقول الباجوري ( فتجب طاعة الإمام ولو جائراً) وفي شرح مسلم ( يحرم الخروج على الإمام الجائر إجماعا)، ما تقدم يوضح جلياً أدوات تنويم الشعب، وتثبيط عزائمه في مقارعة الظلم والفساد.
تبلورت من رحم هذا الواقع الاجتماعي وفي صلب هذه الأجواء مخاضات رفض سلطة الاستبداد عن ولادة ثورة الإمام الحسين الفكرية، وكفاحه النضالي الذي يسمو بنبل أهدافه في سبيل الإصلاح والعدل الاجتماعي، متطلعاً الى حياة حرة أفضل وبلا اضطهاد واستغلال للإنسان، فبدأت مسيرة التضحية والفداء من مدينة جده الرسول الى كوفة علي أبي الفقراء متوسمةً مخاطبة العقل، واستنهاض الوعي الجمعي على مقارعة الظلم والطغيان على الرغم من هول ما يحف بها من مخاطر.
لم يتخلى الحسين عن مسؤوليته التاريخية، مشفقاً كان على من كاتبه من جلاوزة السلطة لثنيه بالمساومة وعرض الأمان عليه، مجيباً نصحائه الذين فضلوا له الصلح والمهادنة وعدم الخروج الى العراق، (أزمعت وأجمعت على المسير)، وخص منهم الفرزدق بكلمة (صدقت)، حينما أشهر ذلك الشاعر عن مكنون يعتمل في صدره، (قلوبهم معك يا أبا عبد الله، وسيوفهم مع بني أمية)، وهو الثائر المدرك لما يكتنف طريق الحق من وحشة لقلة سالكية، تلك حكمة قالها أقرب الناس اليه، ماثلة تجسدت أمامه، حينها أعلن ثباته، وقدم عرضه بالانصراف على من صحبه من الناس على ضوء ما تناهت اليه من أخبار الكوفة، مراقباً تفرق جمعهم من حوله، وبقاء القلة، رجال الموقف في الزمن الصعب، ولم يضعف بل زادت أرادته صلابة وثباتاً وإصراراً في الدفاع عن المبدأ والعقيدة، فوقف الحسين بكل كبرياء الثوار وسط صحراء العرب القاحلة، متمسكاً بإعلاء راية الحق وعدالة قضيته في محاربة الظلم والفساد والذود عن المظلومين، أمام أكثرية خانت العهود والمواثيق، مقايضة المبدأ والحق بهبات الظالم، وجاهة زائلة أو مال سحت، لا تفقه إن ما سيدونه الضمير الإنساني عن استشهاد الإمام الحسين وأصحابه الميامين سيبقى في الوجدان خالدا على امتداد العصور، معلنا عن كون المشروعية ليست رهينة للأكثرية، وعن بداهة انتصار الدم على السيف، وقد صور الشاعر مظفر النواب لحظات الانتصار حين يسقي دم الشهيد أرض الله، وهو يقف أمام الضريح الحسيني قائلاً، لكم كنتَ يوم الطفوفِ وحيداً، ولم يكِ أشمخَ منك وأنتَ تدوسُ عليك الخيول.
الإمام الحسين، تاريخ لثورة ورمز لقضية، لم يقف عند حدود عناصر الأحداث وأبعاد وقائعها، المتمثلة في رمزية واقعة الطف، وشعائر ذكرى كربلاء، ومضامين حدث التضحية، مدلولات مظلومية الحسين، ومعنى مفهوم الثورة فحسب بل تحول إرثها التاريخي الثر الى عطاء فكري متجدد، دافعاً الى تحريك واستنهاض الروح النضالية لدى المظلومين والمستضعفين في فضاء لا حدود زمانية أو مكانية لمساحته، ومن السهولة تتبع واستجلاء تلك المعطيات سواء كانت كفاحاً ثورياً أو حراكاً فكرياً على أرض الواقع، فلقد سطرت في صفحات التاريخ أحداثا مستمدة من ثورة الحسين على المدى القريب منها كثورة التوابين، وثورة المختار الثقفي، وثورة زيد، وعلى سبيل ايضاح ما ترتب من أثر في مجال الفكر، نذهب الى استقراء الدكتور رشيد خيون وما أشار اليه عن فتوى ابن طاووس في العدل، في مقاله المنشور في جريدة المدى بالعدد 312، ومفاده، (طوال تاريخ الدولة الإسلامية لم يجرأ أحد من الفقهاء على القول بتفضيل العدل على الإيمان، ولكن بعد مدة تزيد على ستة قرون تجرأ ابن طاووس على كشف فتواه في تفضيل الحاكم العادل الكافر على المسلم الجائر، بعد أن ظلت مستورة تتداول في الفقه الشيعي طوال الحكمين الأموي والعباسي، وبذلك واصل الفكر الإسلامي مع حكمة علوية وخزين في الفكر الشيعي حول مفهوم العدالة)، مع كونها مبنية على نصوص مقدسة.
احتضنت أرض الطف مسرح المأساة، وسرى الحدث الى قرار التاريخ، ورفرفت أرواح الشهداء من أرض كربلاء الى عنان السماء، القاً يشرق في وجه الإنسانية، معلماً البشرية دروساً في كيفية أن يصون الإنسان مبادئه، وموضحاً معاني الأشياء الحقيقية في ظل تنوع الرؤى والحيثيات والمعطيات)،).